لا تشبه الحرب الإسرائيلية على لبنان غيرها من الحروب، في تاريخ الصراع الطويل، فهي تزخر بالمفاجآت التي يبدو أنّها لن تنتهي فصولاً، وقد أحاطت بها منذ ما قبل يومها الأول، مع "مجزرة البيجر" الشهيرة التي يتّفق الجميع على كونها غير مسبوقة، بحجم الاستهداف الذي انطوت عليه، بعدما طاول الآلاف في دقيقة واحدة، وإن قوبل بـ"إعجاب" العالم بهذا العقل "الإجرامي" بدل "إدانته"، وكأنّه يشاهد فيلمًا عالميًا من إنتاجات هوليوود.
وبعد مجزرة أجهزة الاتصال، بشقّيها، دخلت إسرائيل نمط "الحرب التقليدية" بصورة واسعة، عبر إيجاد "توازن" بين القصف الجوي الذي لا يخفى تفوّقها على خطّه، والعمليات البرية التي يقول كثيرون إنّها "نقطة ضعفها"، لكنها بالموازاة، لجأت إلى نوع آخر من الضربات "النوعية"، تمثّلت خصوصًا في أسلوب الاغتيالات الذي استهدفت من خلاله كبار القادة، بمن فيهم من كان يُعتقَد أنّهم محصَّنون، وعلى رأسهم الأمين العام السابق لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله.
وقبل أيام، اختارت إسرائيل تسجيل "سابقة" أخرى في سياق الصراع الحالي، بعملية إنزال بحري في منطقة البترون الساحلية في شمال لبنان، البعيدة عن نطاق العمليات العسكرية القائمة، لتختطف بنتيجتها قبطانًا بحريًا مدنيًا، يُدعى عماد أمهز، تفاوتت المعلومات بشأن انتماءاته وارتباطاته، مع توصيفه إسرائيليًا على أنّه قيادي مهمّ في "حزب الله"، في سياق تبرير العملية، ونفي عائلته أيّ علاقة له بالحزب أو غيره من الأحزاب.
وإذا كانت العملية شكّلت بحدّ ذاتها، وبمعزل عن تفسيراتها، تحوّلاً "نوعيًا" آخر في سياق الحرب، وإن كان ثمّة "سوابق إسرائيلية" من هذا النوع في حروبها السابقة، فإنّها أثارت علامات استفهام بالجملة حول الخلفيات الحقيقية، ولا سيما أنّ إسرائيل لم تكن تتردّد في اغتيال من تعتبرهم "أهدافًا" حتى لو كانوا في مناطق خارج نطاق عملياتها، فلماذا غيّرت تكتيكها هذه المرّة، وأيّ رسائل أرادت عمليًا إيصالها من خلال هذا الإنزال؟!.
في المبدأ، يؤكد العارفون أنّ "إنزال البترون" يحمل دلالات جوهرية ومهمّة في سياق الحرب القائمة بين إسرائيل و"حزب الله"، تحديدًا على المستوى النفسي، وذلك بمعزل عن "الهدف المباشر" الذي تتفاوت التقديرات بشأنه، وكأنّ إسرائيل أرادت من خلالها تسجيل المزيد من النقاط على الحزب، بقولها إنّها قادرة على الدخول إلى أيّ مكان على الأراضي اللبنانية، بدليل عمليتها "الدقيقة" في البترون، التي لم يُكشَف النقاب عنها إلا بعد ساعات من حدوثها.
ولعلّ هذا التفصيل بحدّ ذاته يبدو مثيرًا للجدل، فالعملية التي اتضح أنّها حصلت فجر الجمعة، لم تُكشَف علنًا إلا بعد ظهر السبت، أي بعد أكثر من 24 ساعة، وعبر تسريبات غير واضحة في بادئ الأمر، ليتبيّن بعد ذلك أنّ قوة كوماندوس إسرائيلية دخلت بكلّ بساطة إلى أحد الشاليهات في البترون، واختطفت الشاب أمام أعين الجيران، الذين طلب منهم أفراد القوة البقاء في منازلهم، بعدما أوحوا لهم باللهجة اللبنانية، أنهم ينتمون إلى أحد الأجهزة الأمنية.
وأبعد من هذا التفصيل، يقول العارفون إنّ "خطورة" الإنزال البحري تكمن في المقاطع المصوّرة التي تعمّد الإسرائيليون التقاطها ومن ثمّ تسريبها، لتوثيق العملية التي تسجّل "إنجازًا نوعيًا" آخر بالنسبة لهم، في إشارة إلى قدرتهم على التوغل داخل منطقة ساحلية لبنانية كالبترون، وتنفيذ عملية دقيقة واستثنائية، واختطاف "هدف معيّن" من داخل منزله، من دون أن يواجهوا أيّ مقاومة تُذكَر، بل من دون أن يرصدهم أحد، سواء من "حزب الله" أو غيره.
وإذا كان هذا الأمر يثير علامات استفهام أكبر عن وجود "تواطؤ" سهّل على القوة الإسرائيلية تنفيذ مهمّتها الخطيرة، سواء على مستوى "عملاء محليين" يقول البعض إنّهم منتشرون على كامل التراب اللبناني، أو على مستوى "غضّ نظر" ممّن يفترض به رصد مثل هذه الانتهاكات، وتحديدًا في قوات الطوارئ الدولية، فإنّ هناك من يرى في "الإنجاز المزعوم" محاولة "تعويض" ليس إلا، عن الفشل في التقاط صور مشابهة، في منطقة العمليات الأساسية في الجنوب.
عمومًا، وبعيدًا عن الجوانب النفسية للعملية، والتي قد لا يكون ممكنًا تجاهلها أو القفز فوقها، بل ثمّة من يعتبر أنّها تتقدّم على سائر الاعتبارات، ثمّة علامات استفهام أخرى تُطرَح حول الدلالات "العملية" للإنزال، سواء في ما يتعلق بهوية الشخص المستهدَف وارتباطاته، أو بالخلفيات التي دفعت إسرائيل إلى اختطافه بهذا الشكل، مع ما يحمله من "مخاطرة" في مكانٍ ما، في وقتٍ كان بالإمكان اغتياله، كما فعلت إسرائيل مع آخرين، من دون أن تكترث لأماكن وجودهم.
هنا، يبدو أنّ "الغموض" سيبقى سيّد الموقف، إذ لا معلومات واضحة حتى الآن، بانتظار أن تكشف التحقيقات التي بدأت رسميًا تفاصيل العملية وأسبابها، علمًا أنّ الفرضية الأقرب إلى الواقع وفق ما يقول العارفون، هي أنّ إسرائيل أرادت توقيف القبطان البحري "حيًا"، لأنّها تعتقد أنّه يمكن أن يقودها إلى معلومات غير مكتملة لديها، أو ربما لأنّها تشتبه بدور له في تسليم أسلحة إلى "حزب الله" عبر البحر، وبالتالي تسعى لفكّ "شيفرة" ما في هذا الإطار.
وفي حين يبقى كلّ ذلك في خانة "التكهّنات"، فإنّ تسريب الإسرائيليين معطيات عن بدء التحقيقات مع الشاب بمجرد اختطافه، وقبل وصول القوة إلى الداخل، يعزّز في مكانٍ ما هذا الاعتقاد، علمًا أنّ هناك من يرجّح ألا يبقى إنزال البترون "يتيمًا"، باعتبار أنّ التحقيق قد يقود إلى أشخاص آخرين، ستسعى إسرائيل إلى توقيفهم، من خلال عمليات دقيقة ومحدّدة مشابهة، على أن تبقى موضعية، ولا تتوسّع إلى توغّل فعليّ وحقيقي في أي حال من الأحوال.
لكن في المقابل، ثمّة من يعتبر أنّ تكرار هذا النوع من العمليات قد لا يكون بهذه السهولة، وإن لم يكن مستحيلاً بطبيعة الحال بفعل التجربة، فإسرائيل استفادت من عامل "المفاجأة" مرّة أخرى، إذ إنّ أحدًا لم يكن يتوقّع مثل هذا الأمر، تمامًا كما فعلت في عمليات البيجر وغيرها التي جاءت من خارج التوقعات، وبالتالي فإنّ من رأوا القوة في منطقة البترون، لم يعتقدوا للحظة أنّها قد تكون إسرائيلية، بل لعلّهم صدّقوا فعلاً أنّها عائدة لأحد الأجهزة الأمنية.
في المحصّلة، يمكن القول إنّ إسرائيل أرادت ضرب أكثر من عصفور بحجر "إنزال البترون"، فهي سعت لتوجيه رسالة "تفوّق" أخرى من حيث لا يحتسب "حزب الله"، مسجّلة المزيد من النقاط عليه في سياق الحرب النفسية والاستخباراتية، وأرادت أن تقول أيضًا إنّ كلّ شيء يبقى "مشروعًا" أمامها لتحقيق أهدافها الكاملة من الحرب، بعيدًا عن القوانين والأعراف، فكيف يمكن أن يتلقّف اللبنانيون هذه الرسائل، وماذا لو أصبحت "روتينًا" كغيرها؟!.